في محطةِ القطار نظرتُ إلى مِـنى من ارتفاعٍ جيد ، رأيت الجموعَ طريقُها واحد ، إلى عرفات ، ذاكَ ماشٍ و ذاكَ راكبٌ و ذاكَ ينتظر و كلهم يرددُ " لبّيكَ اللّهم لبّيك " .
لفت نظري تلك اللحظة اجتماعُهم و نفرتهم إلى عرفات !
سبحانَ الله !
لو أنَّ حاكمًا أمرَ أهلَ قريةٍ أن يخرجوا منها زرافاتٍ و وحدانًا ما فعلوها بذاتِ التنظيمِ ، و ذاتِ الطريقة !
انطلقنا و في كل شبرٍ حاجٌ يذكرُ الله ، لما تحركَ القطارُ ضجّ المدى " لبّيكَ اللّهم لبّيك "
نزلنا من المحطةِ و ارتحلنا سعيًا على الأقدامِ إلى المخيم ، و الذي كان متاخمًا للمحطة ، كنتُ أتمنى وقتها أن يبتعدَ قليلاً لأطيلَ التأمل في مناظرِ الحجّاج .
أقمنا و كنا قد بيتنا النيّةَ أن نفترقَ فلا يشغلنّ بعضنا بعضًا .. و ما أجملَ روحانية ذلكَ اليوم ، و ما ألذّ طعمه ؛
كنتُ أرفعُ يدي فلا أملكُ زمام لساني لأدعُ .. لا أملكُ إلا أدمعًا هزها الذنبُ ، و ترجو مغفرةَ الرَّب .
كنتُ أجتهدُ أن أخفيها ، فتنهمر رغمًا عني .
تلكَ عرفات .. نسائمها قد حلقتْ بروحي بعيدًا بعيدًا ..
كنتُ أشعرُ أنَّ الساعاتِ مرت سريعةً جدًا ، خصوصًا بعد صلاتي الظهر و العصر ، و لما دنت الشمسُ للغروبِ وقفتُ كما وقف رسول الله صلى اللهُ عليه و سلم يوم عرفةَ أحسست أن موقفي هذا ، هو الموقفُ ذاته في حَجّة الوداع
بكيتُ كثيرًا ، أحسستُ أنَّ يوم عرفةَ انقضى و ما كنتُ أريد ذلك !
كانت الساعةُ الأخيرةُ من أجملِ ساعاتِ عمري ، شعورٌ غريبٌ لا أعلمُ ما هو .. هو أكثر من الروحانية ، هو أسمى و أسمى
ما أعلمهُ أنه شعورٌ لا أُطيقُ لهُ وصفًا !
كم هو جميلُ أن تشعرَ أنكَ تدنو من الجنّةِ ، و كم هو جميلٌ أن تشعر أن الله ـ تعالى ـ يباهي بكَ ملائكته تلك اللحظة ..
و ما هو إلا حسنُ الظّنِ بالله ـ تعالى ـ و أملٌ لا ينقطعُ في رحمتهِ التي وسعت كلّ شيء ..
غربتْ الشمسُ ، و ما سكنت عرفات ! و لا سكنت ألسنٌ تلهجُ بذكر الله ..
غربت الشمسُ و " لبّيكَ اللّهم لبّيك " تخرجُ من القلبِ و تستقرُ فيه !
أمّا في مُزدلفة ، فالروحُ تسكنُ رحابَ الإيمان ، تمضي و كل خطوةٍ تُدنيكَ من ذاكرٍ و شاكر و عابد .
و تغفو و تستيقظُ و ذاكَ الذكرُ يصدح ..
لا إله إلا الله ..
و ربي .. لو مزجتُ حلاوةَ تلكَ الأوقاتِ بماءِ البحرِ لأصبح عذبًا فراتًا سائغًا للشاربين !
ما أجملَ أن تعيشَ أيامًا كلها لله ، ذكرُ و طاعةٌ و قرآن ، و صلاةٌ ، و صلةٌ ، و تلبيةٌ ، و إحسان .
بقينا بعد الرمي في مِـنى أرضِ العابدينَ ، و مبيتِ الذّاكرين ، نُصبحُ و التكبيرُ يتردد ، و نغفو و ذاتهُ لا ينقطع .
حتى وقت الأمطار ، مساء اليوم الحادي عشرَ من ذي الحجّة ، و الرعدُ يزمجرُ في سمَاءِ مِـنى فلا أسمع إلا " اللهُ أكبرُ ، اللهُ أكبرُ ، لا إله إلا الله ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، و لله الحمد "
هناكَ الروحُ تتعلقُ بأستارِ السماء ، و تعانقُ أسفار الغيم !
أمّا في بيتِ اللهِ العتيقِ ، فالحلاوةُ تتضاعفُ قيراطا ، و نظرةٌ إلى الكعبةِ تجلو كلَ همٍ صادي !
ذلك اليومُ لا يوصف .. هو لوحدهِ حكايةٌ مُدهشةٌ ، و ذكراهُ في سويداء الفؤاد
اغتسلنا بالمطرِ ، و نحنُ سجودٌ للهِ في صلاةِ العصر ، بلحظةٍ كنا نسبحُ في بحرٍ من الرحمةِ و المطر ، و يا لله ما أبهى تلكَ اللحظة ..
وقفتُ بعدَ الصلاةِ أدعو و الماء ينهمرُ انهمارا غزيرا ، و لولا أننا خشينا الإصابةَ لما تركنا الساحةَ أبدًا ..
كنتُ أحاولُ أن أستغل تلكَ اللحظات ، فإجابةُ الدعاءِ فيها أحرى ، كيفَ و قدْ اجتمع طيبُ المكانِ و الزمان
في بيتِ اللهِ ، و في الطوافِ ، و في أيام التشريقِ ، و تحتَ المطر .. تلكَ منحةٌ لا تجتمع لكثير !
و لعله كان مبشرًا بالقبول و التطهيرِ إن شاء الله " ليطهركم به "
لمّا أنهيتُ السعي .. و انتهى الحج ..!
و لم ينتهِ الذكر و الطاعة ..
وقفتُ أدعو اللهَ بينَ الصَفا و المروة ، و وجهتُ بصري إلى الكعبة ، وسألتُ الله القبول و الثبات .
أصدقكم .. تلك اللحظةُ وحدها أجمل و أسمى ما مرّ علي طيلةَ أيام الحج ..
أجهشتُ بالبكاء حينها ، فالدمع الرقيق لا يعني شيئًا ,,
بكيتُ و لا أدري ما ذاكَ الشعور ..
كنتُ أودُ حينها أن أعودَ و أحج مرةً أخرى و أخرى .. ما كنتُ أريدُ أن ينتهي ، و ما كنتُ أحسبُ أن روحي ستتعلقُ بهِ إلى ذلكَ الحد .
جلستُ لما خشيتُ الإطالةَ على من معي بالقربِ منهم ..
مرّ طيفُ الأيام الماضيةِ ببالي و عدتُ لأبكي ..
بكيتُ لأني سأفقدُ تلك الأيام ..
و بكيتُ لأني سأغادرُ بيتَ اللهِ العتيق ..
و بكيتُ لأني بينَ يدي ربي ، و قد أنعمَ علي و عصيته ، و تفضّل عليّ و عصيته !
بكيتُ كرمه سبحانهُ و تعالى ، و بكيتُ سفهي و جهلي ، و إسرافي في أمري .
بكيتُ لأني سأعود و روحي لا تزالُ معلقةً في الغمام .
آهٍ يا بيتَ الله .. و آهٍ يا مِـنى .. و آهٍ يا عرفات .. و آهٍ يا مزدلفة ..
سكنتُكِ فأبقيتُ روحي بينَ ثراكِ .. و عُدت !
يتبع .. مشاهد و صور
/
حكايا نجمة..!